هذه الأسئلة لم تعد مجرد موضوعات فلسفية أو جدلية في المقاهي، بل أصبحت ميدانًا للبحث العلمي والنفسي، ومحلًا لتجارب ودراسات ضخمة، حاولت –وما زالت تحاول– أن تقيس قدرات البشر وتضعها في أرقام ونسب ومعايير. إلا أن الواقع يكشف لنا في كل مرة أن الذكاء ليس الضمان الأكيد لاتخاذ القرارات الصحيحة، وأن الأذكياء أنفسهم قد يقعوا في فخاخ الحماقة، ربما أكثر من غيرهم.
هذا المقال يحاول أن يعيد قراءة تاريخ اختبارات الذكاء، ويربطه بحكايات مثيرة لشخصيات تاريخية وعلمية ارتكبت أخطاء غريبة رغم ذكائها، ثم ينتهي إلى تسليط الضوء على مفاهيم جديدة للذكاء، تتجاوز اختبار الـIQ الشهير، وتبحث في معنى الحكمة والذكاء العملي والإبداعي والعمل الجماعي.
من ميار إلى ألفريد بينيه: بداية الهوس بقياس الذكاء
قد تبدو قصة الطفلة "ميار" في بداية السكريبت ساخرة، لكنها تعكس واقعًا حقيقيًا: كثير من الآباء والأمهات يبحثون عن اختبارات أو وسائل سريعة لمعرفة مستوى ذكاء أبنائهم، وكأن الذكاء صفة يمكن حصرها في درجة أو ترتيب. في المشهد الكوميدي، يجلب الأب ابنته ميار إلى المدرسة "لتكتشف الأستاذة ذكاءها"، ثم يتضح أنها فشلت في كل الاختبارات التقليدية، فيقرر أن يخضعها لاختبار أخير، فإذا بها تدهش الجميع بإجابات غير متوقعة، أقرب للحكمة الشعبية أو للطرائف، لا للعلم والمنطق.
هذه الصورة الساخرة هي المدخل المناسب لفهم أصل اختبارات الذكاء في المدارس.
بعد الثورة الفرنسية، التي قامت على مبادئ الحرية والمساواة والإخاء، ظهر اتجاه لإلزامية التعليم، وصار لزامًا على الدولة أن تضمن حق الأطفال جميعًا في الالتحاق بالمدارس. لكن مع تطبيق هذا القانون، اكتشفت المدارس أن الأطفال ليسوا على مستوى واحد من القدرات العقلية، وأن هناك فروقًا واضحة في الاستيعاب والتعلم بين التلاميذ.
ومن هنا برز سؤال محوري: كيف يمكن تصنيف الطلاب بشكل عادل يضمن لهم التعليم الأنسب لقدراتهم؟ هل يجلس جميعهم في فصل واحد رغم الفروق الكبيرة بينهم؟ أم يتم فصل المتفوقين عن المتوسطين عن الضعفاء؟
الإجابة جاءت على يد العالم الفرنسي ألفريد بينيه، الذي ابتكر أول اختبار لقياس الذكاء في بدايات القرن العشرين، عرف لاحقًا باختبار الـIQ. كان هدف "بينيه" عمليًا وبسيطًا: تحديد الأطفال الذين يحتاجون إلى دعم إضافي في المدرسة. لم يكن يرى أن درجات الاختبار تعبر عن قيمة الإنسان أو تحدد مصيره للأبد. لكنه وضع اللبنة الأولى لثقافة قياس الذكاء بالأرقام.
من بينيه إلى تيرمان: حين يتحول الذكاء إلى قدر محتوم
على الجانب الآخر من الأطلسي، التقط عالم النفس الأمريكي لويس تيرمان فكرة بينيه، وطوّرها بشكل واسع، حتى صارت الصيغة الأشهر لاختبارات الذكاء اليوم. أضاف تيرمان فكرة "نسبة الذكاء" (IQ = العمر العقلي ÷ العمر الزمني × 100)، ووسع نطاق الاختبارات لتشمل الكبار أيضًا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأ "تيرمان" مشروعًا طموحًا في عام 1921 عرف باسم "دراسة تيرمان للموهوبين"، اختار فيها 1500 طفل من أذكى أطفال كاليفورنيا، وتتبع حياتهم لعقود طويلة. كان هدفه إثبات أن الذكاء ليس مجرد نتيجة اختبار، بل هو قدر يحدد مصير الأفراد. أراد أن يصنع نخبة المجتمع من خلال فرز الأذكياء في سن مبكرة، وتخصيص الموارد لهم ليصبحوا قادة المستقبل.
لكن "تيرمان" لم يكن موضوعيًا بالكامل. فقد استبعد من دراسته أبناء الفقراء والأعراق التي كان يعتبرها "أدنى"، مثل الأفارقة واللاتينيين. كان يعتقد أن الذكاء وراثي، وأن الفقراء يرثون "جينات" الضعف العقلي، وبالتالي ليسوا جديرين بالاستثمار. وصل به الأمر إلى تأييد سياسات التعقيم الإجباري للفئات التي اعتبرها أقل ذكاءً.
بهذا التحول، خرج اختبار الذكاء من وظيفته التعليمية المحدودة إلى أداة اجتماعية لإعادة هندسة المجتمع على أساس النخبوية والفرز العقلي. ومن المفارقات أن "تيرمان" طبق اختبارات الذكاء حتى داخل أسرته، فحدد أماكن الجلوس على مائدة الطعام بحسب نتائجها!
ذكاء بدون حكمة: آرثر كونان دويل وتوماس إديسون
الذكاء وحده ليس ضمانًا للقرارات الصحيحة. هذا ما تكشفه لنا قصص حقيقية لشخصيات ذكية جدًا ارتكبت حماقات مذهلة.
الحكاية الأولى: السير آرثر كونان دويل
مؤلف شخصية المحقق الأشهر "شيرلوك هولمز"، رمز الذكاء والتحليل المنطقي، كان نفسه ضحية خدعة طفولية. في عام 1917، عرضت عليه فتاتان مراهقتان صورًا لجنيات سحرية التقطتاها عند بحيرة. لم يكتف دويل بتصديق القصة، بل كتب كتابًا كاملًا يدافع فيه عن وجود الجنيات، مستندًا إلى "أدلة علمية" مثل الطاقة الكهرومغناطيسية! بعد عقود، اعترفت إحدى الفتاتين بأن الصور كانت مجرد رسومات من كتاب أطفال.
هكذا وقع مؤلف شيرلوك هولمز، الرجل الذي علم العالم فن الاستنتاج، في فخ خرافة طفولية. السبب؟ تحيز عاطفي: كان دويل متأثرًا بزوجته واعتقادها بالأرواح، ويعاني من خوف عميق من الموت، فوجد في الإيمان بالجنيات عزاءً نفسيًا.
الحكاية الثانية: توماس إديسون
مخترع المصباح الكهربائي وواحد من أعظم العقول العملية في التاريخ، رفض الاعتراف بجدوى التيار المتردد الذي طوره منافسه ويستنجهاوس ومساعده السابق تسلا. لم يكتف بالرفض، بل شن حملة بروباغندا شرسة ضد التيار المتردد، تضمنت صعق حيوانات بالكهرباء لإثبات "خطورة" الاختراع. حتى أنه ضغط على الحكومة لاستخدام التيار المتردد في الإعدام بالكرسي الكهربائي، ليقنع الناس بارتباطه بالموت.
لكن في النهاية، انتصر التيار المتردد وصار هو المستخدم في العالم كله، بينما خسر إديسون معركته. لماذا؟ لأنه وقع في ما يسميه علماء النفس مغالطة التكلفة الغارقة: الإصرار على استثمار فاشل لمجرد أنك أنفقت فيه وقتًا وجهدًا كبيرين.
التحيزات الإدراكية: كيف يخدع الأذكياء أنفسهم؟
العالم الحائز على نوبل دانيال كانمان يشرح في كتابه الشهير Thinking, Fast and Slow أن عقل الإنسان يعمل بنظامين:
-
النظام السريع: تلقائي، بديهي، ينقذنا في المواقف العاجلة.
-
النظام البطيء: عقلاني، تحليلي، يحتاج وقتًا للتفكير.
المشكلة أن النظام السريع عرضة لتحيزات إدراكية تجعلنا نستنتج ما نريد تصديقه، لا ما هو حقيقي. والذكاء العالي لا يحمي من هذه التحيزات، بل أحيانًا يجعلها أسوأ، لأن الأذكياء بارعون في تبرير اختياراتهم الخاطئة وإيجاد الحجج لها.
مثال دويل هو تحيز الاستدلال المدفوع: توظيف الذكاء لإثبات ما تتمنى عاطفتك أن يكون صحيحًا. ومثال إديسون هو مغالطة التكلفة الغارقة: التمسك باستثمار فاشل لأنك بذلت فيه الكثير بالفعل.
دراسات كثيرة أظهرت أن الأشخاص ذوي الـIQ العالي أكثر ميلًا للمخاطرة المالية والإفلاس، لأن ثقتهم المفرطة بذكائهم تجعلهم يبالغون في تقدير قدرتهم على التعامل مع المستقبل.
الذكاء ليس عقلانية: فخ الـIQ
الصحفي والباحث العلمي دافيد روبسون في كتابه The Intelligence Trap يميز بين الذكاء (كمهارة في الحساب والاستنتاج) والعقلانية أو الحكمة (كقدرة على اتخاذ القرارات السليمة). يشبه الأمر بسيارة ذات محرك قوي لكن سائق ضعيف الخبرة: قد تتحطم رغم قوة المحرك.
العالم إيجور جروسمان وجد أن الذكاء يفسر 5% فقط من الفروق بين البشر، بينما التفكير الحكيم يحتاج مهارات أخرى غير تلك التي تقيسها اختبارات الـIQ.
ستيرنبيرج: ثلاثية الذكاء الجديدة
قصة العالم روبرت ستيرنبيرج تجسد الوجه الآخر لفخ الذكاء. في طفولته، فشل في اختبار IQ فوُصف بالغباء، وكاد يفقد ثقته بنفسه لولا معلمة شجعته وقالت له: "ليست درجة الذكاء هي التي تحدد مستقبلك." هذه الجملة غيرت حياته وجعلته يكرس أبحاثه لإعادة تعريف الذكاء.
ستيرنبيرج اقترح نظرية ثلاثية الأبعاد للذكاء:
-
الذكاء التحليلي: ما تقيسه اختبارات الـIQ.
-
الذكاء العملي: القدرة على حل مشكلات الحياة اليومية والحكم على الناس والمواقف.
-
الذكاء الإبداعي: التفكير في البدائل و"ماذا لو؟".
دراساته على آلاف الطلاب أظهرت أن تدريب الناس على الذكاء العملي والإبداعي يرفع نتائجهم بشكل كبير مقارنة بالتركيز على التحليل وحده.
العمل الجماعي: لماذا تفشل فرق العباقرة؟
حتى لو جمعت أذكى الأفراد في فريق واحد، لا يعني ذلك بالضرورة النجاح. دراسة عالم النفس آدم جالينسكي وجدت أن الفرق المليئة بالنجوم غالبًا ما تفشل بسبب الصراع على المكانة، وأن النسبة المثلى للنجوم في أي فريق هي الثلث فقط.
هذا يفسر مثلًا كيف تفوقت آيسلندا الصغيرة على إنجلترا العملاقة في بطولة أوروبا 2016 رغم قلة لاعبيها المحترفين. كان سر نجاحها في الانسجام والتعاون، لا في عدد النجوم.
ذكاء بلا وعي: قصة بول فرامبتون
الذكاء الأكاديمي الرفيع لا يحمي من السذاجة الاجتماعية. الفيزيائي الشهير بول فرامبتون، المتخصص في المادة المظلمة، وقع ضحية عملية نصب عبر الإنترنت: صدق أنه على علاقة بعارضة أزياء وأصبح مهرّبًا للكوكايين دون أن يدري. هذه القصة تذكرنا بالذكاء العملي الذي تحدث عنه ستيرنبيرج: القدرة على التعامل مع الواقع، لا المعادلات.
نحو ذكاء أوسع من الأرقام
التاريخ والحكايات السابقة كلها تؤكد أن الذكاء ليس رقمًا على اختبار، وأنه قد يتحول إلى فخ إذا لم يرافقه وعي وحكمة وتواضع. الذكاء التحليلي مهم، لكنه لا يكفي. نحتاج أن نربي في أطفالنا –وفي أنفسنا– الذكاء العملي والإبداعي، مهارات العمل الجماعي، والقدرة على إدراك التحيزات وتجنبها.
الإنسان ليس محركًا قويًا بلا سائق، ولا مجرد رقم في جدول الـIQ. الذكاء الحقيقي هو أن تعرف حدودك، وتتعلم من أخطائك، وتستخدم قدراتك لخدمة الحقيقة لا تزييفها. حينها فقط يصبح الذكاء نعمة لا نقمة.
اكتب اي تعليق