الذكاء مميز

العقل الذكي يرى الحل حيث يرى الاخرون المستحيل.

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

اكتب اي تعليق

قصة عمر بن الخطاب مع اقوى مشهد عن " العدل " فى الاسلام #قصص_الاسلام

 هذه قصة شريح القاضي؛ رجل قضى ستين سنة يعلي من قيمة العدل حتى صار اسمه مرادفًا للإنصاف، ورمزًا لموقف القاضي الذي لا يركع لأي سلطان ولا ينحني أمام هوى بشر. سأعيد كتابة السكريبت الذي قدمته لك على شكل مقال طويل ومفصّل، يجمع السرد التاريخي، التحليل الفقهي والأخلاقي، والدروس العملية التي يمكن للعاملين في القضاء والإدارة والقيادة أن يستخلصوها من تجربة شريح. الهدف أن تحصل على نص متكامل يمكن قراءته كسيرة، أو استخدامه كمادة مطوّلة للنقاش أو التدريس.



مدخل: لماذا نحتاج إلى قراءة قصة شريح اليوم؟



في زمن تتداخل فيه السلطة مع المساءلة، وتنتشر فيه الضغوط السياسية والاجتماعية على مسارات العدالة، يصبح استحضار نماذج مثل شريح ضروريًا. شريح لم يكن فقط قاضيًا يطبق أحكامًا؛ بل كان مدرسة للقيم: استقلالية القضاء، حماية المظلوم، مراعاة النصوص والضمير معًا، والشجاعة الأخلاقية التي لا تساوم.

القصة التي سنرويها مشتقَّة من السكريبت الذي زودتني به — سرد يحوي حكايات تُظهر شجاعته، حكمته، معارضته للاستبداد، وإخلاصه للعدل حتى في مواجهة خلفاء وولاة قويين. سنعيد صياغتها، نوسعها ونعمّقها بالمفاهيم والدروس، مع الحفاظ على النبرة السردية التي تجعل القصة حية ومؤثرة.


الفصل الأول — من هو شريح؟ لمحات عن الرجل ومكانته

شريح؛ رجل قضى حياته في خدمة القضاء. اسمه ارتبط بمدينة الكوفة، تلك المدينة التي أصبحت عاصمةً للباطن الإسلامي في حقبة ما، ومركزًا للسياسة والفقه والقضاء. تميز شريح بوقوفه الطويل على منبر القضاء — قاضيًا لا يخشى ظلًا ولا سلطانًا، ومعلمًا لتلاميذ قضائيين جيلًا بعد جيل.

طوال ستين سنة من حياته العملية في القضاء، ترك بصمة لا تُمحى: طريقة عقل مستنير في فهم النصّ، قدرة نادرة على التوازن بين الرفق والصرامة، وإيمانًا راسخًا بأن العدل لا يَسْمَح بالتميّز بين غني وفقير، حاكم ومحكوم، قريب أو غريب.

لم تكن مسألة شريحه مجرد توقيع أحكام؛ بل مشروعًا قيميًا يدفعه إلى وضع قواعد مؤسسية: بيت للقضاء مستقلّ، لافتة في صدر دار القضاء تعلن مبادئه، وتربية أجيال من القضاة على منطق العدالة لا على منطق الولاءات الشخصية.


الفصل الثاني — مشهد افتتاحي: مواجهة بنية السلطة والعدل في بيت الحاكم

السرد الذي بدأ به السكريبت يضعنا فورًا في مواجهة محكمة غير تقليدية: أمير المؤمنين يطلب حكم شريح في نزاع تجاري يتعلق ببيع فرس مريض. هذا الموقف القصير يحمل حمولة رمزية كبيرة:

  • أولًا: يظهر مدى احترام السلطة (حتى لو كانت السلطة نفسها تملأها الغضب) لوجود قاضٍ مستقلّ قادر على إصدار حكم يهدّئ النفوس. عمر بن الخطاب، في القصة، كان غاضبًا ومتحيّزًا لصالح من ظنّ نفسه مظلومًا (ربما البائع)، لكنه وقف ليعطي فرصة للحكم المستقل.

  • ثانيًا: المقارنة بين منطق القوة (الغضب، السلطة) ومنطق القضاء (المنطق، الدليل، الإنصاف). عمر قال لجارحه "لا أحكم في بيت أحد المتخاصمين" — هذا تأكيد أولي على حيادية القضاء.

  • ثالثًا: انطباع عمر بالثبات والمنطق في شريح. هذه ليست ثقة بلا أساس؛ إنما ثقة اكتسبها القاضي من مواقفه السابقة ومنطق أحكامه.

النزاع حول الفرس في هذه الرواية ــ حيثٍ اشتراه عمر فعاد به وهو يعرج وطلب مالَه ــ يمثل اختبارًا عمليًا للعدالة: هل تُردّ البضاعة؟ هل يُطالب البائع بالتعويض؟ كيف يُوازن القاضي بين شهادة كل طرف والبديهة والعدل؟

شريح، بحسب السرد، لم يردّ الفرس فورًا، ولم يسمح لغضب عمر أن يفرض حكمًا متسرعا. بل اتهمه السرد بالتمهل والتأمل، ثم قال بالكلام الذي وضعه في موقع القوة المنطقية: "أين جئت بهذه الحكمة؟" الجواب يكشف فلسفة شريح: ليس عن رقعة علمية ولا إعداد رسمي، بل عن "العدل قضيته منذ طفولتي" — تأكيد على أن العدل عنده ظاهرة أخلاقية تتغذى من تجربة الحياة والوجدان.

هذا المشهد يقدم لنا قاعدة مهمة: القاضي الحقيقي لا يكون محض فقيهٍ في نص، بل هو حكيم حضاري انبنى عنده العدل ضربًا من تركيبة النفس والتجربة.


الفصل الثالث — مشروع شريح المؤسس: دار قضاء مستقلة وشعار للعدالة

من أشهر ما ورد في السكريبت: شريط من الحوار يجعلنا نطّلع على مشروع شريح الإداري — طلبه من الخليفة (أمير المؤمنين) إنشاء دار قضاء مستقلة بدل أن يقضي القضاة من بيوتهم. هذه الفكرة بالغة الأهمية لعدة أسباب:

  1. الاستقلال المؤسسي للقضاء: حين يقضي القاضي من داره، فذلك يعرضه للنفوذ والوساطات والانحراف؛ أما الدار المستقلة فتوفر بيئة مهنية، مشهدًا عامًا، ووجهًا مؤسسيًا يمثل العدالة دون أهواء.

  2. الرمزية والهيبة: وجود مقرّ قضائي يعطي انطباعًا أمام الناس بأن هناك مؤسسة تُحترم، وأن العدالة ليست فقط حالة شخصية بل مؤسسة مجتمعية.

  3. التجربة العملية: شريح استند إلى قصة نبوية (داود عليه السلام) التي جعلت القاضي محل وقوع الخطأ عندما لم يهيأ لوقوع الخصمين باطلالة مفاجئة. هنا شريح يربط بين النص الأخلاقي والتطبيق العملي؛ يقول إن الوقائع تتطلب تجهيزًا مؤسسيًا.

الطلب ليس دهاءً إداريًا فحسب؛ إنه موقف سياسي-مهني: شريح يريد ضمان شروط العمل القضائي السليم. وقد نجح — بحسب السرد — في أن يحصل على دار مستقلة للقضاء. هذه الخطوة تُعد بداية بناء جهاز قضاء مؤسسي في تاريخ المدينة الإسلامية، وتزكية لفكرة أن العدالة تحتاج بنية تحتية، لا مجرّد قرارات شخصية.


الفصل الرابع — موقف القاضي: استقلالية القرار والالتزام بالنص

من الحكايات المؤثرة: المحكمة التي قضاها شريح بين علي بن أبي طالب ويهودي حول درعٍ. علي، أمير المؤمنين، جاء يدّعي أن الدرع الذي معه مسروق منه. كان لديه شاهدان: ابنه الحسن وخادمه. القاضي شريح رفض شهادة الابن وحدها كافية إذا لم يقترن بشهود آخرين، مفضّلًا قواعد الإثبات على المكانة.

هذا الموقف يظهر عناصر متعددة:

  • العدالة فوق السلطان: ليس من المقبول أن يزعم أمير المؤمنين حقًا في ملكية شيء بدونه أدلة كافية. لا تعابير عن مكانة علي تجعله فوق دعوى الإثبات.

  • قواعد الإثبات عند شريح: كان الصرامة في تطبيق الشروط (عدد الشهود، سلامة الروايات) أهم من الخشية من تبعات الحكم.

  • الشجاعة الأخلاقية: القاضي لم يرفض شهادة علي من باب التقليل من شأنه؛ إنما طبّق ما يراه صوابًا، وهو ما دفع الرجل ليعتراف في النهاية ويدلي: "والله إنها لدرعه، وأنا الذي سرقتها منه" — ثم يتبع ذلك إعلان إسلامه في السرد، كقيمة أخلاقية تدعم عدالة القرار.

الدرس هنا عميق: استقلالية القاضي ليست فقط مقاومة للسلطان الخارجي، بل مقاومة للانحياز الداخلي والولاءات الشخصية. القاضي الناجح هو من يطوّع النص والضوابط لصالح الحقيقة، حتى لو كان صاحب الدعوى أقوى الناس مكانة.


الفصل الخامس — شريح بين القضاء والصِلة بالسلطان: موقف إزاء الحجاج ويزيد

خلال الرواية، نصل إلى فصل يضع فيه شريح أمام مأزق أخلاقي وسياسي: قرار يزيد بن معاوية تعيين الحجاج واليًا على الكوفة. الحجاج معروف بطابعه السلطوي، وبسلوكه الذي قد يُعرقل استقلالية القضاء. شريح يشعر بأن وجود حاكم مثل الحجاج سيقوض ضمانات العدالة، ويأتي رد فعله طبيعياً: التفكير في الاستقالة.

هذا المشهد يلقي ضوءًا على معضلة قديمة ومتجددة: ما العمل حين تكون المعرفة والضمير القضائي في مواجهة سلطة ظالمة؟ الخيارات عادة محدودة: الاستقالة، المواجهة، الخضوع مع محاولة الإصلاح من الداخل. شريح الذي قضى ستين سنة حسم موقفه بعنفوان أخلاقي؛ كان يرى أن القضاء دون شروطه الأخلاقية والمهنية لا معنى له. الاستقالة هنا ليست هروبًا بل موقفًا أخلاقيًا ــ إعلان أنّ السلوك السلطوي الذي يضعف ضمانات العدالة يجعل من ممارسة القضاء عملاً بلا حسّ تشريفي.

هذا الجانب يدفعنا للتساؤل: ما قيمة القضاء إن تحولت السلطة إلى أداة قهر تُقوض الإجراءات القانونية؟ شريح اختار مبدئيًا ألا يواصل إذا تقطّعت الأوصال المؤسسية. هذه رسالة واضحة للسلطة: لا تُمزقوا هيكل العدالة، وإلا سار قضاة الضمير حيث شاءوا.


الفصل السادس — شريح وقضية الانضباط الذاتي: قاضي يحاسب ابنه

من أقوى المشاهد في المضمون الذي وفرته: عندما حكم شريح ضد ابنه بسبب فشل في ضمان دين لصديقه. القاضي لم يستثنِ ابنه من حكم العدل، بل أصدر حكمًا بسجنه لشهر. ابنه جاء متذمرًا: "أنا ابنك الوحيد!" — لكن شريح أجاب بمنطق قضائي حجته في النص والقواعد: الضامن مسؤول، وإذا هرب المضمون، فالضامن يفقد حقه ويُعاقب.

هذه الواقعة تعكس ثلاثة أمور:

  1. العدل لا يعرف القرابة: شريح طبّق الحكم على أقرب الناس إليه. هذا يقدم نموذجًا رفيعًا لمبدأ عدم الانحياز.

  2. تربية على المساءلة: القاضي لم يختلف بين علاقة عاطفية أو واجب قانوني. القراءة العملية للقضاء بالنسبة إليه تعني مساءلة دائمة، حتى داخل الأسرة.

  3. معنى السلطة والمسؤولية: من يتبوأ منصب قضاء لا يمكنه السكوت عن أخطاء أبنائه لأن ذلك يفسد مبدأ المساواة أمام القانون.

هنا درس تربوي قوي للقادة وأولياء الأمور: لا أحد فوق القاعدة، والمساءلة داخل الأسرة تعكس تبعية الحرص على العدل في المجتمع بأسره.


الفصل السابع — شريح مدرسة: منطق القضاء وتدريب الجيل

طوال ستين سنة قضاها، صنع شريح جيلاً من القضاة وتلاميذ المنطق القضائي. لم تكن محاكمه مجرد محاكم للفصل في القضايا، بل كانت حلقات تعليمية: دروس في الاستدلال، أمثلة في تطبيق الأحكام الشرعية، وتلقين المبادئ المؤسسية.

ماذا نستلهم من هذا الجانب؟

  • التقنين المؤسسي: أن العدالة تحتاج إلى تعليم، نظام، وسرد تبادلي للخبرات. شريح صنع ذلك بتقديم منطق موحّد في التعامل مع الحجج والأدلّة.

  • الاستمرارية: ستين سنة ليست مجرد زمن؛ هي رسالة استمرارية للمبادئ. فالقاضي الناجح هو من يعمل ليربي خلفه وليس من يكتفي بحكم واحد قوي ثم يختفي.

  • الأثر الرمزي: تلاميذ شريح حملوا قيمه إلى أجيال تالية. الفقه لا يكتفي بفتاوى؛ يحتاج لمدارس تُبقي مضامين العدالة حيّة.


الفصل الثامن — القيم التي جسّدها شريح ونقاط للتطبيق المعاصر

من قراءة كل الحكايات والمواقف نستخلص جملة من القيم والتوصيات التي تنفع القضاة، المدرسين، الساسة، وكل من يعمل في مؤسسات الحكم:

  1. استقلالية القضاء مؤسسية وليست فردية فقط: مطلوب مقرّ قضائي، إجراءات رسمية، وقواعد حماية من النفوذ السياسي.

  2. العدالة لا تستثني أحدًا: القاضي الذي لا يطبق القانون على أقرب الناس إليه يفقد مصداقيته.

  3. التدرّب على الضمير: العدالة ليست تطبيقًا حرفيًا للكتاب فقط، بل تنبع من تجربة أخلاقية وصقل مستمر.

  4. حماية الضمانات القانونية: لا يجوز تقويض شروط الإثبات أو الإجراءات الدستورية لصالح سياسات آنية.

  5. التربية القانونية: على القضاة أن يكونوا مدرّسين، لأن نقل المعارف القضائية يضمن استمرارية العدالة.

  6. الشجاعة الأخلاقية: مواجهة الحاكم الظالم بالاستقالة أو رفض التدخّل هي خطوة أخلاقية تحفظ كرامة القضاء، وهي طريق لإعادة التأكيد على مبادئ العدالة العامة.


شريح اليوم — من رمزية الماضي إلى دروس الحاضر

قصة شريح القاضي ليست قطعة أثرية نحفظها للترفيه التاريخي فقط؛ إنها منهاج أخلاقي وعملي. في عالم اليوم، حيث تُعطّل الضمانات المؤسساتية ويتدخل السياسيون في شؤون القضاء، يصبح استحضار شريح أكثر من ضروري: إنه استحضار لِـ"قاضي الضمير" الذي يعطي للعدالة معنى يفوق التهديدات المؤقتة.

الشخصيات التاريخية مثل شريح تمنحنا مأوىً فكريًا نعود إليه متى انحرفت مؤسساتنا. ليس لأنهم معصومون أو خالون من الخطأ، بل لأنهم وضعوا قواعد قدر الإمكان لتحييد السلطة عن محكمة الحق. وهنا يكمن سر بقائهم في الذاكرة: ليس لمواقفهم الفردية فحسب، بل لتركهم مؤسسات فكرية وممارسات عملية طبعت الوجدان الجماعي.

أدعو القضاة، المسئولين، وكل من لديه سلطات تنفيذية أو تشريعية، أن يقرأوا قصة شريح بتمعّن. ليس كمجرد سرد يُحكى في المساء، بل كمخطط عملي لبناء نظم عادلة: استقلالية، تأصيل أخلاقي، تعليم متواصل، ومجابهة شجاعة لكل من يريد أن يستبيح حكم القانون.

وفي الختام: إن شراح (أو شريح) لم يكن مجرّد شخصية تمثّل الماضي. إنه صوتٌ يهمس في آذان كل من يحمل على عاتقه مهمة الفصل بين الناس: «لا تترك العدل مقابل راحة النفوس، ولا تضحِ بمبدأ العدالة لمصلحة عابرة». إن التمسّك بالعدل هو ما يبقي المجتمعات حية، ويحفظ للدولة نزاهتها.

عن الكاتب

مهند

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الذكاء مميز